الغاية العظمى من خلق الناس هي عبادة الله وحده كما قال عز وجل: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، فهي الغاية التي تنافس فيها المتنافسون ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، وجردت السيوف للجهاد في سبيل الله، ولأجلها افترق الناس إلى شقي وسعيد، وإلى مؤمن وكافر فكان فريق منهم في الجنة وفريق في السعير.
ومن هنا كان على العاقل أن يسعى في معرفة ما خلق لأجله وإلى تحقيقه والتدين به باطنا وظاهرا. وإذا كان من المتقرر أن أصل الحركة من القلب لأن العاقل متحرك بالإرادة والإرادة محلها القلب، فالقلب كالملك والأعضاء جنوده، فإذا استقام القلب استقامت الجوارح والعكس بالعكس إذا كان من المتقرر هذا فإن على المسلم أن يكون شديد العناية والرقابة لقلبه وعمله، تزكية ومجاهدة وإخلاصا وإصلاحا؛ لأن بصلاحه تصلح سائر الأعمال، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» رواه أحمد.
إن أعمال القلوب وتزكيتها عملية شاقة ومنزلة عالية تحتاج من الشخص مجاهدة ومراقبة دائمة، وصدق توجه إلى الله تعالى، واستشعار الذل والافتقار والحاجة لعون الله تعالى وتوفيقه، وعدم الاغترار والعجب بالعلم والعبادة ولا بالقوة والسلطان، ولا بثناء الناس وتبجيلهم، فالله أعلم بمن اتقى، والإنسان لا يأمن على نفسه أن يسبق عليه الكتاب فتنقلب حاله، فالقلب يتقلب، والنفس ضعيفة، وقد جاء في الحديث عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع رب العالمين إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزغه أزاغه. وكان يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك» رواه أحمد.
والله عز وجل إذا علم من عبده صدق توجهه وإخلاص قلبه، وفقه وأعانه وسدده، ويسر له طرق الهداية والفلاح كما قال سبحانه: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين} [العنكبوت: 69].
والمقصود أن على المسلم أن يسعى في صلاح قلبه وسلامته من أدران الشرك والمعاصي والإرادات الفاسدة، لأنه لا نجاة يوم القيامة إلا بسلامة عمل هذا القلب كما قال الله تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء 88]. وعليه أن يستعين بالله في ذلك وأن يكثر من دعاء ربه لهداية قلبه وأن يرزقه قلبا سليما.
والواجب على العبد أن يخلص عبادة قلبه لله تعالى وأن يحقق معنى شهادة أن لا إله إلا الله. وتعتبر أعمال القلوب من الأعمال الباطنة كمحبة الله والإخلاص له والتوكل عليه والرضا عنه ونحو ذلك، كلها مأمور بها في حق الخاصة والعامة وهي من أصول الإيمان وقواعد الدين.. والمسلمون في أعمال القلوب على ثلاث درجات: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، ومن أعمال القلوب:
1- الإيمان: وهو التصديق بوجود الله، ربوبيته وألوهيته ومن لوازمه الإيمان بكل ما أمر الله الإيمان به. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا} [النساء: 136].
2- الإخلاص وإحضار النية الصادقة: في جميع الأعمال والأقوال والأحوال. قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبد الله مخلصين له الدين حنفاء..} [البينة: 5]. وقال سبحانه: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} [الحج: 37]. وقال جل وعلا: {قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوا يعلمه الله} [آل عمران: 29]. وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» متفق على صحته، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» متفق عليه. وفي حديث آخر عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة فقال: «إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض» وفي رواية: «إلا شركوكم في الأجر» رواه مسلم، وعن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى أجساد كم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» رواه مسلم.
3- المحبة: الذي عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث، أن الله سبحانه محبوب لذاته محبة حقيقية، بل هي أكمل محبة، قال تعالى: {والذين آمنوا أشد حبا لله} [البقرة: 165]. وقال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد. وقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} [آل عمران: 31]. وفي الحديث: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» رواه أحمد. وفي حديث آخر: «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان» رواه أبو داود وأحمد.
4- الخشية والخوف: الواجب على المؤمن أن يخلص عبودية الخوف والخشية لله تعالى كما قال سبحانه: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 175]. وقوله: {فلا تخشوا الناس واخشون} [المائدة: 44]. وقوله تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني} [البقرة: 150]. وإذا أشرك الشخص بالله حصل له الخوف والرعب كما قال تعالى: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} [آل عمران: 151]. وقوله: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: 82]. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم هنا بالشرك، ففي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هذا الشرك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13].
5- الرجاء والرغبة: ينبغي للعبد ألا يعلق رجاءه إلا بالله ولا يخاف من الله أن يظلمه، فإن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون، بل يخاف أن يجزيه بذنوبه، فقد روي عن علي رضي الله عنه قال: لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه، رواه ابن أبي شيبة. وفي حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل على مريض فقال: «كيف تجدك؟» فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال: «ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف» رواه ابن ماجة. وقد قيل: الالتفات إلى الأسباب، شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، لهذا قال الله تعالى: {فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب} [الشرح: 7- 8]. وقال تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} [المائدة: 23]. وقوله تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا، كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا} [مريم: 81- 82].
6- توحيد الأسماء والصفات: وهي من أعمال القلوب ومعناه إثبات ما أثبته الله في محكم كتابه أو فيما صح على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تشبيه، يقول الله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]. وقوله: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول} [الجن: 26- 27].
7- التوكل والاستعانة: لقد فرض الله على العباد أن يعبدوه ويتوكلوا عليه كما قال تعالى: {فاعبده وتوكل عليه} [هود: 123]. وقال: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا} [المزمل: 8- 9]. وقال: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 2- 3]. ويقول الله تعالى: {قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} [الرعد: 30]. وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة والنار، فقيل: يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له» رواه البخاري. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» رواه مسلم.
هذه الأعمال جميعها على أهميتها واجبة على جميع الخلق المأمورين في الأصل باتفاق جميع الأئمة، وأسعد الناس أطوعهم لله وأعبدهم له، وبقدر إخلاص العبد تكون سعادته وأمنه وخلاصه وفوزه وقوته ونصره فأهل التوحيد هم الآمنون في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: 82].
أسأل الله سبحانه أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الكاتب: فضل الله ممتاز.
المصدر: موقع رسالة الإسلام.